تاريخ ممتد بامتداد بدء الكون ـ ونحن لا نكذب أو نتجمل ـ حين نقول بأن مصر كانت همزة الوصل الأولى التي بدء بها هذا الكون، فحين سُطر للتاريخ أول صفحة من صفحاته، كانت مصر أول كلمة تكتب فيها، وحين ندلل على ذلك ونسوق الشواهد والبراهين فإن الفرصة تمنحنا أدلة واضحة لا مراء فيها، الشاهد ؛ اختصاص المولى عز وجل بذكرها في القران الكريم في أكثر من موضع ضاربا المثل ـ ولله العزة ـ بأنها أرض اختصاص، اختصاص للأنبياء والمرسلين، وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على ما كان لهذا البلد من مكانة وقوَامة جعلتها فى مصاف البُلدان، الشاهد الآخر أن المولى عز وجل حينما ذكر مصر لم يخص ذكر منطقة فيها دون أخرى كما هو واضح في ذكر ما تم ذكره من البُلدان، بل في كل موضع كانت تذكر "مصر " جملة، وإن دل هذا إنما يدل على أن كل جزء فى مصر له من القداسة والخصوصية ما يجعلها جملة واحدة لا انفصام فيها، بدءا من مخازن الأرض التي بُنيت فى عهد سيدنا يوسف عليه السلام في أسوان إلى الجبل الذى تجلى عليه المولى عز وجل في طور سيناء، ليمنح موسى عليه السلام منحة الأُنس والاصطفاء، سيرا بالرحلة المقدسة لسيدنا عيسى عليه السلام وأهله فى أرض مصر وربوعها، واختتمت بالعلاقة الإنسانية التي جعلت من أهل مصر وشعبها نسبا وصهرا لأبو الأنبياء سيدنا إبراهيم، وخاتم المرسلين سيدنا محمد عليهما أفصل الصلاة وأزكى التسليم، أي خصوصية تلك التي تُمنح لبلد وصف بالأمن والأمان على لسان رب العالمين في قران يُتعبد به ليوم الدين خصوصية قُدمت بالمشيئة حتى لا تتغير أو تتبدل، هذه الخصوصية ذُكرت فى ست مواضع أول موضع في الآية 70 من سورة البقرة (قالوا أدع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون )
الموضع الثاني الآية رقم 99 من سورة يوسف ( فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين )الموضع الثالث الآية رقم 69 من سورة الكهف (قال ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصى لك أمرا ) الموضع الرابع الآية 27 من سورة القصص (وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين ) الموضع الخامس الآية رقم 102 من سورة الصافات (قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين ) الموضع السادس الآية رقم 27 من سورة الفتح (لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين ) أي خصوصية تلك التي منحها المولى عز وجل لهذا البلد حتى جعل مشيئة الدخول لا ترتبط إلا بأمرين عظيمين دخول مصر، ودخول المسجد الحرام ـ والله إنها مصر ـ التي قال المولى عز وجل عنها في الآية 87 من سورة يونس (وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوَآ لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة وبشر المؤُمنين ) أي أن بيوت سيدنا موسى وأخيه كانت أول قبلة لإقامة الصلاة، سابقة في أصلها قبلة المسجد الأقصى والمسجد الحرام، بل خُصت كل البيوت قبلة تشريفا وتكريما، اختصاص ما بعده اختصاص وتشريف ما قبله ولا بعده من تشريف وبشارة لأهل الإيمان فيها، إن التاريخ حينما ذكر مصر ذكرها عبر الاف السنين فلقد عاشت مصر فترات من الحقب التاريخية تمثلت فيما قبل التاريخ بشقيه الحجري القديم والحديث، ومصر الفرعونية، والبطلمية، والرومانية، والإسلامية والتي اندرج تحت لوائها العصر الأموي والعباسي والطولوني والإخشيدي والفاطمي والأيوبي والمملوكي والعثماني ثم الحملة الفرنسية، وحكم محمد على والاحتلال البريطاني ومن ثم مصر المعاصرة والتي شهدت ثورة 23 يوليو وحرب 73، إن الحروب التي خاضتها مصر عبر تاريخها لم تكن إلا شاهدا ودليلا على قوتها وأغوار عزيمتها بداية من الحروب التي خاضتها مع الهكسوس ونهاية بحرب السادس من اكتوبر 73.
وما زالت مصر محمية بمشيئة ربها، تاريخ طويل من الكفاح والنضال وما زالت الأرض تؤتى أكلها بفضل ربها، ومازال أهل مصر بقوة إيمانهم لبشارة ربهم، فعرف أهلها الإيمان وأقاموا الصلاة ، فكانت لهم الخصوصية الربانية التى منحتهم الأمن والأمان إلى قيام الساعة، سطر التاريخ فى صفحاته أجمل ما سطر عن عبقرية هذا البلد وتفرده فى كل شىء ، عبقرية المكان والموقع الجغرافي الذى لا مثيل له حتى تكون فى مأمن من كل شر، وعبقرية الإنسان المصرى الذى تحدى كل المحن والصعاب وصنع من المستحيل شراعا شق به بطون البحار والمحيطات، ونحت من الصخر بيوتا، وصنع من عجائب الدنيا الأهرامات ،جاء الطغاة إليها وذهبوا كما جاءوا لأنهم وجدوا فى أهلها صلابة الصخر وقوة القهر وعزيمة الصبر ، فتحطمت أحلامهم وبعثرت آمالهم فحملوا رحالهم بغير رجعة ، تمر الأيام ليسجل التاريخ صفحة أخرى من صفحات العبقرية المصرية التى واجهت أعتى غزو فكرى فى تاريخها الحديث سابحا تحت غطاء الحرية والديمقراطية ، فتمخض من بين جنباته ما عرف بالربيع العربى ،شر مدقع ،وقلم موجع لطم به كل من وهم بالربيع العربى فكانت عاقبة وهمه خسرانا ،وكانت مصر من أهم الدول التى أراد أن يوقع بها شياطين ومدعى الحرية والديمقراطية من غزاة الغرب ورعاة اليهود ،فدسوا السم فى العسل ،ليشرب منه كل غافل كأسا لا يفيق بعده أبدا، ولكن مشيئة الله التى أرادت لهذا البلد الأمن والأمان إلى قيام الساعة كانت وازعا قويا لحفظه ورعايته ، وجاءت الثورة يعقبها ثورة لتتم مشيئة الله فى حفظ هذا البلد من كل شر ،ان عيون العالم لن تغمض، وستظل مفتحة ترصد كل كبيرة وصغيرة حتى تجد ملجأ أو مغارة تعبر منها لتنال من وحدته ، وتثبط من قوته وعزيمته ، ولن يهدا العالم أو يستقر له جفن إلا إذا نال من خيرها ،واستعبد أهلها ، وها هى مصر تبصر ما أحيط بها وتفك شفرة المخطط الغربى الواهم بالنيل منها ، لتثور ثور الأسد إذا ما رأت من يقترب من عرينها، فوعت الدرس ودخلت الاختبار لتفوز بالإنتصار.
شاهد العالم التحول الذى دمر مخططاتهم وحطم معتقداتهم للمرة الثانية وظنوا بأن مصر صيدا من السهل الوقوع بها فى شباك غزاة الفكر والتطرف، فتمذقت هذه الشباك وقطعت أوصالها، وعادت مصر وكأن شيئا لم يكن ،وعادت قوية أبية لا تعرف الذل ولا الإنكسار،عادت لتثبت للعالم أجمع أن شعبها أصيل وجيشها عظيم وخيرها كثير ونيلها يجرى بإذن الله فى كل وقت وحين ، وفى أمن الله وحفظه إلى يوم الدين، لم يكن من السهل على مصر أن تتخطى هذه الصعاب وهذه الحروب الخفية، لولا نعمة من الله وفضل ، مصر شهد التاريخ بحسنها وتعاظمت ذكرا بآيات ربها عشق الفؤاد نيلها وترابها ولا يرضى الفؤاد بفيرها.
ياسر القاضي اHyasser10@yahoo.com