عندما تكون الحياة مضنية يكون الموت ملاذا يسعى المرء اليه .هيرودوت.
مؤخرا أصبح الانتحار وسيلة احتجاج لمن لاصوت لهم ، وصرخة ألم لاتنطلق نحو السماء ، بل للأسفل باتجاه الأرض ، فتذهب بصاحبها إلى قبر موحش يتقلب فيه ، ولو كان هناك من يسمعه ويحنو عليه ويشخص وضعه (النفسي والاجتماعي) لما انتهى به الحال هكذا قد لا يكون أمرا مستغربا مع تزايد الهموم ومصاعب الحياة، وابتعاد بعض الناس عن دينهم، وعدم تحصنهم بالعبادات التي تقوي إيمانهم وأملهم بالله.
إلا أن ما يستنكره العقل ويستعصي عليه تقبله، هو تزايد حالات الانتحار في القرى والمدن الصغيرة، لما يفترض أن تتمتع به هذه المجتمعات الصغيرة من تكاتف وعادات وتقاليد وفي السنوات الأخيرة أصبح موضوع الانتحار أكثر تداولاً في القرى والمدن الصغيرة بشكل يكشف عن وجود مشكلة بصدد التزايد في مجتمعاتنا، حتى ولو كانت لم تبلغ بعد شروط الظاهرة.
لا شك في أن الانتحار ظاهرة نفسية في المقام الأول، وأنها من مشمولات المختصين في الطب النفسي. لما كان الانتحار هو تعبيرا عن موقف الفرد من الآخرين ورد فعل على تأثير الآخرين وهيمنتهم وضغطهم وعنفهم الرمزي المتعدد التمظهرات.
فما الذي يدعو شابا في مقتبل العمر للانتحار هل هو ضعف الإيمان، أم أنه الأمل بالخلاص من الألم؟ وماهي المراحل التي مر بها المنتحر قبل أن يصل فيها إلى قراره ليسعى فيها إلى إنهاء حياته وإلغاء اسمه من سجل الأحياء؟! وكم هو حجم الألم والضياع الذي عاناه وقاساه في المراحل المتتالية التي انحدرت به وأوصلته إلى كره الحياة وطلب الموت؟
وكيف لم يفطن إليه أحد فيمد له يد العون والمساعدة وينتشله من الدوامة التي يتخبط فيها، ليس بالقول والنصح فقط بل بالفعل والإرادة؟ فنحن نفتقر للمؤسسات المدربة المتخصصة التي تهتم بهموم الشباب النفسية والاجتماعية والعملية فالانتحار ليس مجرد رغبة بالموت وسعيا له بل هو كل خطوة يمكن أن يقدم عليها الإنسان، فتزل قدمه فيذل وتمتص روحه و إرادته وكرامته فيذبل ويضيع وتهون عليه حياته بماضيها ومستقبلها. فالانغماس في الرذيلة انتحار، وإدمان المخدرات انتحار، والسرقة والنهب والجريمة رحلة إلى الانتحار، والفراغ والبطالة والتشتت بداية الانتحار. يوجد حوالى 35% من حالات الانتحار ترجع إلى أمراض نفسية وعقلية، كالاكتئاب والإدمان.
و65% يرجع إلى عوامل متعددة مثل الدراسة والثقافة والتربية والمشاكل الأسرية،والعاطفية والأمراض الجسمية.
ويقول تقرير صادر عن منظمة الصحة العالمية ان مصر في المرتبة الأولى عربيا من ناحية معدلات الانتحار، متفوقة في ذلك على دول تشهد نزاعات مسلحة وحروبا أهلية. وتليها السودان ثم اليمن والجزائر.
وقالت التنسيقية المصرية للحقوق والحريات، في تقرير لها العام الماضي إن هناك "تزايدا في عدد حالات الانتحار"؛ إذ تم تسجيل أكثر من 150 حالة انتحار خلال اسبوع، معظمهم من الشباب في الفئة العمرية بين 25 و30 عاما.
ومركز البحوث الاجتماعية والجنائية أصدر تقريرا في عام 2020 أشار فيه إلى أن معدل الانتحار لا يتجاوز 1.29شخصا لكل 100 ألف نسمة، ورصد التقرير انتشار الانتحار بين سكان الريف وليس فقط سكان المدن المكتظة.
ما الذي يدفع البعض إلى الانتحار؟ سؤال يتبادر الى الأذهان في كل مرة ينتشر فيها خبر عن شخص قرر إنهاء حياته بشنق نفسه او تعاطي جرعة زائدة من المخدرات أو تناول كمية كبيرة من الحبوب والأدوية وكلها حالات يرجع سببها عادة إلى الأزمات والضغوط النفسية التي يمر بها هؤلاء، لا يعد الانتحار ظاهرة جديدة، ولكن اللافت انتشاره أخيراً بين الناس.
يقول احمد جمال، اخصائي نفسي ، إن المنتحر ضحية لعوامل كثيرة متشابكة ومتفاعلة، تدفعه لذروة اليأس حتى يقدم على قرار الانتحار.
ومن هذه العوامل ضعف النفس، والمرض، وغياب الثقافة، وهي عوامل قد تتشابك معا لتصيب الشخص بحالة من اليأس تجعله يقدم على الانتحار.
وعلى رأس هذه العوامل تأتي الأمراض النفسية، كالاكتئاب العقلي والنفسي، والإدمان، كأحد أهم العوامل المساعدة على الانتحار، وتحت تأثيرها، قد يسهل عليه الإقدام على الانتحار. ويؤكد جمال أن الاكتئاب العقلي هو الأخطر، لأنه يحتاج إلى عقاقير، بخلاف الاكتئاب النفسي الذي يكون مؤقتا ومرتبطا بظروف معينة يزول بزوالها.
وهناك أيضا أمراض أخرى كالفصام، والهلاوس السمعية والبصرية، وهي أفكار تتسلط على الذهن وتعزل المريض عن العالم الخارجي، وقد تدفعه تحت وطأة ضغوط الحياة إلى الانتحار. الجميع مسؤول عن ظاهرة الانتحار، بدءا من الشخص المنتحر، والأسرة، والاصدقاء،والاعلام، وعلماء الدين، فلكل دوره في حماية من يفكر في الانتحار، بل وأحيانا يكون هؤلاء هم السبب في التفكير في الانتحار يجب على الاسرة احتواء الأبناء ودعمهم، لا سيما في أوقات الأزمات، وإشباعهم نفسيا وعاطفيا، ثم يأتي دور المدرسة مكملا لدور الأسرة، ثم دور علماء الدين والتوعية بأهمية الحفاظ على النفس وعدم اليأس.